أحداث يناير في أذربيجان وثورة ١٩١٩ في مصر… اختلاف الأماكن وتشابه الأحداث

بقلم : د. سَيمور نَصيروف

دونت صفحات التاريخ، وذاكرة الأمم والشعوب العديد من المواقف والأحداث التي تتدارسها الأجيال على مر العصور، لترسم لهم لوحات ذهبية تعبر عن التضحيات التي قدمها الآباء والأجداد من أجل وطنهم، فتلك أثمان الحرية الغالية التي لا تأتي هبة ولا منة من أحد، إنما تأتي دائما بالتضحية بكل ما هو غال ونفيس.
والباحث في أحداث التاريخ المأسوية التي تعرض لها شعب أذربيجان في 20 يناير 1990 والشعب المصري في عام 1919 سيجد أنها تنبع من نفس العقلية الاستعمارية.
فعندما طالب الشعب الأذربيجاني بحقوقه المشروعة للحفاظ على وحدة أراضيه، وجهوا إليه الاتهامات بالتطرف الإسلامي، وقد حاولت الحكومة السوفييتية آن ذاك إقناع شيخ الإسلام الله شكر باشازاده رئيس إدارة مسلمي القوقاز في أذربيجان بتوليه قيادة البلاد حتى يُظهروا للعالم أنهم يحاربون المتطرفين الإسلاميين، إلا أنه رفض رفضا قاطعا وطالبهم بالكف عن إيذاء شعب أذربيجان.
وفي ثورة 1919 استخدمت سلطات الاحتلال البريطاني نفس الأسلوب في مصر، فحينما طالب الشعب المصري بالحرية، وجهت إليه السلطات الاستعمارية الاتهامات بالتظاهر الديني. يقول المؤرخ المصري الشيخ عبد الوهاب النجار في مذكراته عن ثورة 1919، “ويقول فريق من الناس: أن الجنرال واطسن أرسل إلى الحكومة البريطانية بأن تظاهرات المصريين هي تظاهرات دينية، ضد المسيحيون عموما والأجانب خصوصا وأن إطفاء الثورة يحتاج إلى الشدة والقسوة في المعاملة وأنه يستأذن في ذلك”.
تم استغلال الأرمن لقتل المتظاهرين خلال أحداث يناير الأسود، ويقول الكاتب الصحفي المصري محمد سلامة في كتابه عن يناير الأسود: “قام الاتحاد السوفيتي بانتهاك مسئولياته الدستورية أمام الشعب حين دفع بالقوات المسلحة المزودة بأحدث الأسلحة والمدافع لسحق المتظاهرين السلميين، وارتكب جرائم بشعة ضد الشعب الأذري وإراقة الدماء في مدينة باكو ليلة العشرين من يناير عام 1990، كما لعبت الجنود والمليشيات الأرمينية ضمن القوات السوفيتية وخارجها دورا نشطا في ارتكاب مأساة باكو”.
وفي مصر استعان الإنجليز بالأرمن لإخماد الثورة، ويقول المؤرخ عبد الوهاب النجار في مذكراته عن الثورة : “وقد راج في هذه الأيام أن الإنجليز لما أعيتهم الحيل في جعل الثورة المصرية ثورة دينية موجهة إلى الأجانب، ولم يوافقهم قناصل الدول الأجنبية على صيغ المسألة باللون الذي يريدونه عمدوا إلى “الأرمن” يُغرونهم بإحداث الشغب مع المصريين”، وثم تابع عن أحداث ميدان عابدين فيقول “فأطل أرمني بعد ذلك من بيته وأطلق عدة رصاصات من مسدسه فقتل ثلاثة أشخاص”، وفي موضع آخر يقول: ” وبلغني أن الأطفال والمتفرجين من الفتيات والنساء فروا من ميدان عابدين إلى ناحية مدرسة عابدين ودخل فريق منهم في بيت أرمني خوفا من الإنجليز الذين كانوا يلقون القبض عليهم، فكان شاب أرمني يلقي القبض على الأولاد من البيت ويسلمهم إلي الإنجليز ويضعونهم في سيارة حتي امتلأت”، وفي صفحة 163 يذكر أنه ” حدث في ميدان عابدين من جهة قشلاق الموسيقي أن قتل أرمني رجلا من المارة بإطلاق الرصاص عليه بلا سبب ولا داع، فأسرع الجمهور إلى قتله”. ثم تابع ” أطلقت فتاة أرمنية الرصاص وهي تنظر من شباك مسكنها على الجماهير بآخر شارع عابدين بين قسم عابدين والميدان، فهجم الجمهور عليها وأنزلها وألقى ببعض أثاثها في الشارع وأشعل فيه النار”. وفي صفحة 202 ، ” وفي يوم 3 إبريل أطلقت الفتاة مارى أميريان الأرمينية الرصاص على المارة فقتلت شخصا وأصابت الرصاصة الأخرى بابا من الحديد، فلما حبست في قسم عابدين جاء ضابط إنجليزي باثنين من الجند الأسترالي ادعى أحدهما أنه الضارب للرصاص (لأن الرصاصة التي استخرجت من القتيل كانت إنجليزية)، وقد شهد الشهود أنهم رأوا الأرمنية تضرب بالرصاص وصار الأستراليان يترددان مطالبين بإطلاق سراح الفتاة. فلم تشأ النيابة ذلك بعد شهود الرؤية”، ومثل هذه الأعمال الإجرامية التي قام بها الأرمن أثناء ثورة 1919 كثيرة ومن أراد الاستزادة فعليه بالرجوع إلى كتاب “الأيام الحمراء” للمؤرخ المصري العالم الأزهري عبد الوهاب النجار.
عندما هبت رياح التغيير على شرق أوروبا ووسط آسيا ودول البلطيق عام 1990، وبدأت تتفكك منظومة القبضة الحديدية عن شعوب وسط آسيا والقوقاز. ومع حلول ليلة 20 يناير، قامت القوات السوفييتية بهجوم وحشي ودموي على المتظاهرين العزل الذين نزلوا إلى شوارع عاصمتهم باكو مطالبين بالحرية واجتمعوا في “ميدان الحرية”، وفي محاولة يائسة من قبل القوات السوفييتية لإنقاذ النظام الشيوعي المنهار بفضل سياسة الكبت والاستبداد التي اتبعها زعماء الكرملين ضد السكان الذين شملهم الحكم الشيوعي منذ عام 1922، ولمدة تزيد على سبعين عاماً، استخدمت القوات السوفيتية القوة المفرطة الغاشمة ضد سكان أذربيجان المسلمين دون غيرهم من باقي سكان الدول الأخرى التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي.
وهنا أستحضر قول الشيخ محمد الغزالي الذي سجله في كتاب ” الحق المر “، والذي يصف ويعلق على تلك الأحداث فيها: “عندما طالبت شعوب دول البلطيق “استونيا، لاتفيا، لتوانيا” وغيرها من الشعوب غير المسلمة في الاتحاد السوفيتي بالحرية وتقرير المصير، لم يتعرضوا لأي أذى، وتم معاملتهم بالحسنى ومنحهم حريتهم واستقلالهم، ولكن عندما طالب شعب أذربيجان المسلم بحقوقه المشروعة تم إبادتهم وقتلهم”، وهذا ما يمثل الجور البين وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين وتصنيف الشعوب حسب معتقداتهم.
ونرى نفس المعاملة مع المصريين إبان ثورة 1919 كما ذكر الشيخ عبد الوهاب النجار في مذكراته، فيقول: “ومن أعجب العجب أن تحصل المجازر البشرية في مختلف أنحاء مصر، ويتم حرق القرى وهدم المنازل ولا تحرك دولة من دول العالم ساكنا، حتى إذا ما اعتدى الأرمن على المصريين وبادوهم بالعدوان والقتل ورد المصريون عليهم بمثل ما صنعوا نسمع دوي أصوات الأمريكان يستنكرون على المصريين عملهم ويجعلونهم طلاب حق بطريق الشدة والأعمال المنكرة. انقلبت الحقوق وصار المظلوم جانيا آثما وإلى الله المشتكى”.
ومن أعجب العجب أيضا أن هذا الأسلوب مازال يستخدم في القرن الواحد والعشرين، وقد عانت أذربيجان طوال ثلاثين عاما ماضية من نفس المعاملة حيث كانت تحتل أرمينيا قرابة 20% من الأراضي الأذربيجانية المعترف بها من قبل جميع دول العالم وشردت مليون أذربيجاني من ديارهم ودمرت كل التراث الأذربيجاني وحولت مساجد إلى حظائر للخنازير أمام أعين كل المنظمات الدولية إلا أن هذه المنظمات لم تطالب أرمينيا يوما بالحفاظ على ذلك التراث الإنساني ولم تكلف نفسها عناء القيام بزيارة تلك المناطق، وبعد تحرير أذربيجان تلك الأراضي تطالب الآن منظمة اليونيسكو الحكومة الأذربيجانية بالحفاظ على التراث الأرمني في الأراضي المحررة.
وخلال هذه الليلة الدامية في 20 يناير قتلت القوات السوفيتية 131، وأصابت 744 شخصاً آخر، ومازال أربعة أشخاص في عداد المفقودين، كما تم اعتقال 400 مدنياً بشكل غير شرعي، وبعد إعلان حالة الطوارئ في 20 يناير تم قتل 21 شخصاً آخر، أما في المناطق التي لم تعلن فيها حالة الطوارئ فقٌتل 26 مدنياً.
ونحن نحيي هذه الذكرى لا يمكن أن ننسى الأشقاء والأصدقاء الذين وقفوا إلى جانب أذربيجان وقدموا الدعم لشعب أذربيجان خلال تلك الظروف الصعبة، ولا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر لجمهورية مصر العربية حكومة وشعبا على وقوفهم مع أذربيجان، وبهذه المناسبة أذكر بتلك المواقف بين الأشقاء، ففي العام 2018، وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال استقباله لوفد أذربيجاني، أن أذربيجان دولة شقيقة لمصر. فلقد كانت مصر الشقيقة من أول وأقرب الداعمين لشعب أذربيجان في محنته، فلا ينسى شعب أذربيجان صوت النواب في البرلمان المصري، ففي 27 يناير 1990 وجه النائب في البرلمان المصري المرحوم المستشار الدمرداش العقالي احتجاجا برلمانيا إلى الاتحاد السوفييتي على موقفه من شعب أذربيجان المسلم الذي واجه نيران الدبابات في 20 يناير، وفي الوقت الذي قوبل به شعب ليتوانيا بالورود والأزهار، وأصداء الصحافة المصرية التي رفعت مأساة شعب أذربيجان وأسمعت صوته إلى كافة أنحاء العالم.
اليوم وبعد مرور 31 عاماً على تلك الأحداث المأساوية، تظل أحداث يناير الأسود وصمة عار تطارد من اقترفوا تلك الأعمال الإجرامية، فعلى الرغم من أن هناك العديد من القوانين والمواثيق الدولية التي تجرم هذه الأعمال الشنيعة، ورغم وجود محكمة العدل الدولية في لاهاي، إلا أن هذه المؤسسات المسئولة عن تحقيق العدالة في العالم لم تتحرك حتى الآن، ومازال الذين قاموا بهذه الجرائم يعيشون دون عقاب ولا حساب ويتجولون بحرية دون حتى الاعتراف بالذنب ودون مُسائلة من مؤسسات العدالة الدولية، فمازال ضحايا 20 يناير ينشدون العدالة من ضمير الإنسانية في العالم. فقد ارتقى الضحايا إلى مصاف ومنزلة الشهداء، ونالت أذربيجان الحرية والاستقلال، والقتلة تطاردهم الخيبة والندامة، إنه حكم التاريخ.
وفي الختام أتمنى أن يعم السلام والأمان في كل بقاع العالم، وأن ينتشر العدل وكل أسباب الرفاهية فيه، وأن يفهم الأرمن أن استغلال ودعم القوة الخارجية لهم لإحداث الفتنة والتفرقة واحتلال بلاد الجوار لم يأت لهم بأي فائدة، ولم يسهم في تقدم أرمينيا، بل علي العكس جاء بالويلات وسجلت في أجندة تاريخهم، وكفانا أن تذرف الدموع وأن تتحسر على ما كسبته أيدي البشر- إن كان خرابا وتدميرا – لأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق للتعمير والبنيان وليس للفتنة والدمار.

كاتب المقال :

رئيس الجالية الأذربيجانية في مصر


اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading