حسن إسميك يكتب: «ماكرون».. خيانة اللغة وإشكالية المصطلح
هل إلتقط ماكرون عدوى الطائفية الأثيمة من المسؤولين اللبنانيين يوم التقاهم في بيروت؟ هؤلاء يعرفون كيف ينزلون عن الشجرة، متراجعين عن الطائفية، فهل يوجد من يُّنزل ماكرون عنها هو الآخر؟ “لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية”.. هذا ما صرّح به إيمانويل ماكرون قبل فترة في معرض تعليقه على الرسوم المسيئة عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام التي أعادت مجلة شارلي إيبيدو نشرها مجدداً بعدما كانت قد أقامت الدنيا ولم تقعدها في العام 2015.
فهل أراد ماكرون من ذلك إثارة زوبعة من شأنها أن تغطي على الجدل الذي ما زال مستمراً حول الأزمة التي تعيشها فرنسا في ضوء عودة احتجاجات السترات الصفراء المناهضة لإدارته للبلاد؟ وباعتباره قال ما قاله في تصريحاته حول ما سماه “الإسلام المأزوم”، فهل هو جاد حقاً في تنفيذ الخطة التي أعلنها للتصدي للراديكالية الإسلامية، معتبرا بقصدٍ، أو من دون قصد، أن “الإسلام دينٌ يعيش أزمة في كل مكان”؟ ولو قال إن “المسلمين هم من يعيشون في أزمة” وليس الإسلام، لما تسبّب في هذه العاصفة. أم أنه وقع في شرك المصطلحات وخانته اللغة؟ أو لعله انضم إلى التيار السائد من مروجي الإسلاموفوبيا، الذي يضم أنصار اليمين المتطرف الذي بات منتشراً في معظم أنحاء أوروبا و أتباع الاتجاه الراديكالي العلماني الذي لا يخفي عداءه للأديان كلها وبالتالي لا يستثني الإسلام منها؟
ماذا يمكننا تسمية الاصطدام الدائم بين فرنسا والمسلمين حول العالم، ولماذا يحصل ذلك؟
إن العنوان الرئيس لهذا الاصطدام يكمن في “الإسلام السياسي”، الذي ينبغي بنا أولاً أن نعرفه بشكلٍ مبسّط. تقول الويكيبيديا، مثلاً، وهي مرجعية مفتوحة وعامة، إنه “مصطلح ظهرَ حديثًا بسبب انعزال الأقطاب الدينية في العالم الإسلامي عن السياسة، يمكن أن يشير إلى مجموعة واسعة من الأفراد أو الجماعات الذين يدافعون عن تشكيل الدولة والمجتمع وفقًا لفهمهم للمبادئ الإسلامية، كما يشير أيضاً إلى النشاطات واسعة النطاق للأفراد والمنظمات المؤيدة لتحويل الدولة والمجتمع ككل للاستناد لمرجعية من القوانين الإسلامية”.
والإسلام السياسي بهذا المعنى، خاصة في الشق الثاني من التعريف، حاضر في أدبيات النهضة العربية ولدى بعض مفكريها منذ منتصف القرن التاسع عشر. وسواء اختلفنا مع مضمون هذا التعريف أو اتفقنا، فهو في الحقيقة يبقى رأياً وموقفاً يحق لمن يشاء تبنيه والدفاع عنه. غير أن معضلة الإسلام السياسي الداخلية فتتمثل في اقترانه العضوي بالإرهاب، واستخدام العنف والقوة، اللذين تطلّب تبريرهما تكفير مجتمعات تختلف مع هذا الفكر حتى ولو كانت مسلمة، واستباحة دم الأفراد الذين رفضوا هذا التوجه وتصدوا له، وإن كانوا مفكرين أو علماء دين مشهود لهم بالإيمان والتقوى.
وتساهم صلته العضوية هذه بالعنف في تفاقم مشكلة علاقته مع الغرب التي يمكن إيجاز أسبابها بترويجه لخطابٍ مناهضٍ للحضارة الغربية ورافض للقيم الأوروبية التي ضحّى الغرب لأجلها وقدّم شهداءً في سبيلها. لذا تعتبره فرنسا، وباقي الدول الأوروبية التي أسّست مجتمعات تعددية ديمقراطية، خطراً عليها.
هكذا يشغل الإسلام السياسي قادة أوروبا ومفكريها وسياسييها، ليس لأنهم ضد ديننا، ولا لأنهم “أعضاء سرّيون” في “الخطة الكونية الكبرى للقضاء على الإسلام” كما يتخيل المؤمنون بنظرية المؤامرة من العرب والمسلمين، وهم للأسف كثيرون بينهم مسؤولون ومفكرون أيضاً.
بل على العكس، إن الأوروبيين يتابعون الإسلام السياسي عن كثب، وبقلق، لأنه خطر يتعاظم يوماً بعد يوم نتيجة ازدياد عدد المسلمين من المهاجرين إلى بلدانهم أو أبنائهم بشكل رئيس، وجرّاء عوامل أخرى أيضاً ذكر ماكرون بعضها في خطابه الشهير، ومنها فشل عمليات دمج الوافدين والتراخي في معالجة مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية، ما ساهم في استقطابهم من قبل الإسلام السياسي.
ولا أريد هنا أن أذكر أسباباً أخرى ليس من الوارد أن يتحدث عنها رئيس دولة أوروبية، كالتحيز الغربي ضد المهاجرين المسلمين، وحرمانهم من تكافؤ الفرص، واعتبارهم موضع شك بشكل دائم، خاصة منذ حقبة مكافحة الإرهاب التي أطلقتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول مطلع العقد المنصرم.
بعد اللغط الكبير الذي أثاره خطابه، ثم وقوع جريمة قتل المدرس باتي التي صُنفت عملاً إرهابياً، والكثير من الأخذ والرد وإعادة نشر الرسوم المسيئة، فالدعوة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية، أطل ماكرون عبر وسائل الإعلام ليشرح للعرب المسلمين ما قصده فقال “ما أُريد أن أقوله، عَكْس الكثير مما سمعته في الأيام الماضية، وهو أن بلدنا ليس لديه مشكلةً مع أي ديانة في العالم لأن كل الديانات تُمارَس بحرية في بلدنا، بالنسبة للفرنسيين المسلمين كما للمواطنين في كل أنحاء العالم الذين يعتنقون الإسلام. أريد أن أقول لهم، إن فرنسا يُمارَسُ فيها الإسلام بكل حرية، وليس هناك من وصم أو تفضيح، كل هذا خطأ، وكل ما يقال خطأ”. و”الوصم” و”التفضيح” هنا يعنيان هنا إلصاق تهمة الارهاب بالمسلمين جميعا، مثلاً كما هو شائع في أغلب وسائل الإعلام العربية.
ولما طلب منه صحافي توضيح تصريحه الذي جاء فيه “لن نتخلى عن الرسوم الدينية”، قال الرئيس الفرنسي ” أشكرك لأنك ذكرتها حرفياً، كانت هناك ترجمات كثيرة، من وسائل الإعلام في العالم العربي، ورأيتها على وسائل التواصل الاجتماعي الكاذبة، ووضعوا على لساني كلاماً اقتبس منه مثلاً: “إنني أدعم الرسوم الكاريكاتورية التي تهين النبي، أنا لم أقل ذلك أبداً، أولاً، إن هذه الكاريكاتورات تطال جميع الأديان، ليس هناك كاريكتورات موجهة ضد دين دون آخر، وهي أيضاً تطال جميع الزعماء السياسيين؛ وثانياً، قلت إنني أحمي هذا الحق لأن هذا دوري، واعتبر أننا في المجتمع يجب أن نقبل احترام كل فرد ونحميه “.
كان ماكرون واضحاً، فلم يقدم اعتذارات مجانية لتهدئة صخب المستنكرين، ولم يورد جملاً إنشائية توحي برغبة في التملّص مما يحصل، بل قال على الملأ، لستُ هنا لأؤُسّسّ نظاماً أخلاقياً في المجتمع، أو كي أُعيد تعريف الحرية في الجمهورية الخامسة كُرمى لدينٍ ما، وظيفتي هي أن أحمي الدستور والقانون فقط لاغير .
أدى خلط الأوراق من جانب الكثير من وسائل الإعلام، وأحياناً القادة السياسيين والدينيين، ، إلى اعتبار هذه الرسوم الكاريكاتورية مشروع حكومة فرنسا أو رئيس جمهوريتها. هذا حكمٌ باطل قطعاً في ضوء التفكير النقدي، وعلينا أن نضع الأمر في سياقه. فماكرون موظف برتبة رئيس يعمل للحفاظ على حقوق شعبه، وإن كان قد حافظ على حق أحد مواطنيه، فهذا لا يعني أنه على اتفاقٍ معه، إنما من واجبه حماية هذا الحق ليس إلا.
ظهرت “الصوابية السياسية” عند ماكرون عندما قال “إن الإرهاب الذي مُورس باسم الإسلام هو آفة المسلمين في العالم”. وأضاف “معظم ضحايا المسلمين هم أوّل ضحايا الإرهاب الذي يُرتكب باسم الإسلام، هذا الإرهاب ضربنا على أرضنا، ثم هناك فئة ثانية قررتُ أن أُكافحها، تَشَكّل لديها سوء فهم بسبب مشكلة في الترجمة، إن ما نسميه في فرنسا الإسلام المتطرف، أعني بذلك المتطرفين العنيفين، الذي يحورون الدين ويرتكبون العنف داخل الإسلام، وفُسر هذا الكفاح الذي أقوده على أنه كفاح ضد الإسلام”.
مجدداً، وقع المسلمون الغاضبون ضحايا مصيدة الـ Mainstream Thinking، أو ما يُسمى في علم النفس الاجتماعي بـ “التفكير السائد”. فالإنسان بطبعه اجتماعي لا يرغب بالتفرد ولا يريد أن يُشكل جبهة لوحده ضد البقية الاكثرية في الجبهة الأخرى. على العكس تماماً، سيوافق على أي شيء تُمليه عليه الجماعة، مرتاحاً ومطمئناً في منطقته الآمنة، ليس مستعداً للتفريط برضا القطيع عنه. فسياسة الضدّ تخيفه وتقلقه، كما أنه لا يحبذ برودة فكرة البقاء خارج السرب الذي اهتاج الآن وقرر الجهاد في سبيل الجُبنْ. لم يعد هؤلاء يريديون أجبان فرنسا بعد اليوم، ولا عطورها ولا ثيابها الفاخرة، ولو كان الأمر بيدهم لقالوا لا نريد طائراتها أيضاً.
وهنا نطرح السؤال الإشكالي، متى نفقد استقلاليتنا بالتعبير ونصبح تابعين لسلطة أو قوة ما؟ ومتى يمكننا الاحتفاظ برأينا الحر والنظر بعينٍ نقدية تجاه ما يجري من أحداث؟ .
يقول غابريل غارسيا ماركيز “ستَبلُغُ النضج عندما تُدرك عيوب أبيك، وتبلغ الشيخوخة عندما تُدركه”، أي عندما تصل مرحلة تستطيع فيها أن تعدد أبيك ،الذي كان في طفولتك مثلك الأعلى، ولكن ذلك لا يُقلل من حبك له، فأنت هنا تمارس التفكير النقدي. وهذا ما علينا فعله: تجنب التصديق بشكل أُحادي تبسيطي جوهره “العنف ضد الضدّ”، وألا نؤكد صحة كل ما يحدث على إطلاقه. ينبغي أن نخضع كل خطاب للتفكير للنقدي وإن كان جماعياً، وأن ننزع عنه الصفة الوثوقية.
وما دام أن العالم يتغير بشكل سريع، لذلك فإن مبادئ وقيم الشعوب في تبدل دائم. لقد تعاطى أغلبنا، نحن المسلمين، مع هويتنا بطريقةٍ أحادية مغلقة، كقوقعة، فارتفعت أسوارها، في حين أنه كان علينا أن نعتبر الإسلام هوية مفتوحة متعددة، وليست انتقائية.
هل الإسلام في أزمة؟ هل هو أيديولوجية انعزالية، استعلائية، انفصالية تُنتج الإرهاب بجماعةٍ دينية؟ أم أن أنصار “الإسلام السياسي” هم دعاة أيديولوجية مغلقة بامتياز، تشتمل على رؤية محددة سلفاً للإنسان، وللآخر، ويدافع عنها أشخاص لا يريدون الفصل بين السلطة الزمنية = (السياسي) والسلطة الروحية = (المعتقدات)؟.
في الحقيقة.. ما زال بعض المسلمين يأخذون الدين إلى غير مواضعه الصحيحة، ولا يعترفون بفصل الجزء الروحي والعقائدي، ليس فقط عن الجزء الاجتماعي، وإنما عن النظرية السياسية أيضاً، رغم أنهم ليسوا متفقين فيها أصلاً، وهذا ما يُفسر الاصطدام الدائم، ليس فقط بين المسلمين وفرنسا، بل بينهم وبين كل البلدان التي تتّخذ من العلمانية أساساً لها.
اكتشاف المزيد من أخبار السفارات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.