رئيس الجالية الأذربيجانية في مصر يكتب… ضحايا حرية أذربيجان في يناير الأسود

بقلم : سيمور نصيروف

تسجل صفحات التاريخ، وذاكرة الأمم والشعوب العديد من المواقف والأحداث التي تتدراسها الأجيال علي مر العصور، لتحكي لهم عن التضحيات التي قدمها الآباء والأجداد من أجل وطنهم، ويأتي شعب أذربيجان في مقدمة تلك الشعوب التي قدمت الكثير من التضحيات من أجل الحرية، فتلك أثمان الحرية الغالية التي لا تأتي هبة ولا منة من أحد، إنما يكون ثمن الحرية دائما التضحية بكل ما هو غال ونفيس.     

     فما إن يحل شهر يناير من كل عام، إلا وتأتي معه ذكري مأساة “يناير الأسود”، التي تعرض خلالها شعب أذربيجان للقتل من أجل الحرية والحياة الكريمة كسائر شعوب العالم الحرة، التي تريد تقرير مصيرها بنفسها بعيداً عن قبضة السلطات الغاشمة المستبدة التي ماكانت تهدف إلا نهب ثروات الأمة واستنزاف خيراتها واذلال شعوبها.      

      عندما هبت رياح التغيير على شرق أوروبا ووسط آسيا ودول البلطيق عام 1990، وبدأت تتفكك منظومة القبضة الحديدية عن شعوب وسط آسيا والقوقاز . ومع حلول ليلة 20 يناير، قامت القوات السوفييتية بهجوم وحشي ودموي علي الثوار العزل الذين نزلوا إلي شوارع عاصمتهم باكو مطالبين بالحرية والاستقلال عن الاتحاد السوفييتي في ساحة الحرية، وفي محاولة يائسة من قبل القوات السوفييتية لإنقاذ النظام الشيوعي المنهار بفضل سياسة الكبت والاستبداد التي اتبعها زعماء الكرملين ضد السكان الذين شملهم الحكم الشيوعي منذ عام 1922، ولمدة تزيد على سبعين عاماً، استخدمت القوات السوفيتية القوة المفرطة الغاشمة ضد سكان أذربيجان المسلمين دون غيرهم من باقي سكان الدول الأخرى التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي.      

      وهنا أتذكر قول الشيخ محمد الغزالي الذي سجله في كتاب ” الحق المر “، والذي يصف ويعلق علي تلك الأحداث فيها: “عندما طالبت شعوب دول البلطيق” استونيا، لاتفيا، لتوانيا” وغيرها من الشعوب غير المسلمة في الاتحاد السوفيتي بالحرية وتقرير المصير، لم يتعرضوا لأي أذى، وتم معاملتهم بالحسنى ومنحهم حريتهم واستقلالهم، ولكن عندما طالب شعب أذربيجان المسلم بحقوقه المشروعة تم إبادتهم وقتلهم”، وهذا ما يمثل الجور البين وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين وتصنيف الشعوب حسب معتقداتهم.

      لقد أرسل ميخائيل جورباتشوف قواته العسكرية المسلحة لقمع المظاهرات السلمية التي خرجت للاحتجاج، وبعد تلك الأحداث الدامية الأليمة قامت السلطة المركزية للتغطية علي جرائمها بإعلان حالة الطوارئ التي لم تكن معلنة من قبل، والتي لم يعلم بها السكان المتظاهرين، بعد ان قامت القوات السوفيتية بتفجير محطات الكهرباء التي كانت تقوم بتشغيل أجهزة الإذاعة والتلفاز التي كان يستقي منها المواطنون الأخبار والمعلومات، ولم يتوقف القتل حتى بعد إعلان حالة الطوارئ التي علم بها المواطنون من خلال الوسائل البدائية، بعدما قامت الطائرات العمودية بإلقاء المنشورات التي تخبرهم فيها بإعلان حالة الطوارئ في البلاد. 

خلال هذه الليلة الدامية في يناير الأسود قتلت القوات السوفيتية 131، وأصابت 744 شخصاً آخر، ومازال أربعة أشخاص في عداد المفقودين، كما تم اعتقال 400 مدنياً بشكل غير شرعي. وبعد إعلان حالة الطوارئ في 20 يناير تم قتل 21 شخصاً آخر. أما في المناطق التي لم تعلن فيها حالة الطوارئ فقٌتل 26 مدنياً.

      إن ذكرى هجوم القوات السوفييتية على مواطني أذربيجان العزل، والتي تعرف بذكرى ” يناير الأسود”، تمثل نقطة تحول في تاريخ تلك البلاد التي نالت استقلالها بعد كفاح مرير، حيث اقتحم الجيش السوفييتي مدينة باكو في هذا اليوم بوحشية بالغة، بحجة “إعادة النظام إلى المدينة”، محاولاً سحق حركة التحرر الوطني التي كانت تحظى بتأييد كافة فئات وطوائف شعب أذربيجان.         

      ونحن نحيي هذه الذكري لا يمكن أن ننسي الأشقاء والأصدقاء الذين وقفوا إلي جانب أذربيجان وقدموا الدعم لشعب اذربيجان خلال تلك الظروف الصعبة، ولا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر لجمهورية مصر العربية حكومة وشعبا علي وقوفهم مع أذربيجان، وبهذه المناسبة أذكر بتلك المواقف بين الأشقاء، ففي العام الماضي 2018، وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال استقباله لوفد أذربيجاني، أن أذربيجان ليست دولة صديقة لمصر، بل دولة شقيقة لمصر. فلقد كانت مصر الشقيقة من أول وأقرب الداعمين لشعب أذربيجان في محنته، فلا ينسي شعب أذربيجان صوت النواب في البرلمان المصري، وأصداء الصحافة المصرية التي رفعت مأسأة شعب أذربيجان وأسمعت صوته إلي كافة أنحاء العالم.   

     وإذا كنا نقدر ونثمن تلك المواقف النبيلة من مصر ونوابها وقيادتها وشعبها وقوفها إلي جانب أذربيجان ومساندتها ودعمها لها باستمرار، فإن ما يربط بين شعبي البلدين من روابط تاريخية تعود لقرون عديدة هي ما صنعت هذا الحاضر من العلاقات القوية والمتينة بين البلدين، حيث تشهد تلك العلاقات نمواً مطرداً في شتي المجالات تعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين.    

    اليوم وبعد مرور 29 عاماً علي تلك الأحداث المأساوية، تظل أحداث يناير الأسود وصمة عار تطارد من اقترفوا تلك الأعمال الاجرامية، فعلي الرغم من أن هناك العديد من القوانين والمواثيق الدولية التي تجرم هذه الاعمال الشنيعة، ورغم وجود محكمة العدل الدولية في لاهاي، إلا أن هذه المؤسسات المسئولة عن تحقيق العدالة في العالم لم تتحرك حتي الآن، ومازال الذين قاموا بهذه الجرائم يعيشون دون عقاب ويتجولون بحرية دون حتي الاعتراف بالذنب ودون مساءلة من مؤسسات العدالة الدولية، فمازال ضحايا يناير الأسود ينشدون العدالة من ضمير الإنسانية في العالم. فقد ارتقي الضحايا إلي مصاف ومنزلة الشهداء، ونالت أذربيجان الحرية والاستقلال، والقتلة تطاردهم الخيبة والندامة، إنه حكم التاريخ.      

 كاتب المقال 

رئيس الجالية الأذربيجانية في مصر

 


اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading