د.علا المفتي يكتب: تطبيقات عملية لنظرية «التفاهة»

نظرية التفاهة.. قارئي العزيز دعني أقرؤك السلام أولا، ثم أسمح لي أن أكتب لك من جديد، بعد توقف عن الكتابة دام لعدة سنوات، أصابني فيها الإحباط وفقدت شغفي للكتابة تماما.

فلا أخفيك سرا أنني شعرت أنه لا طائل من كتاباتي، فلا أحد يقرأ، ومن يقرأ فإما مجاملة أو فضولا، فلم أعد أجد ضالتي في ذلك القارىء الذي يناقش ويستفيد مما يقرأ.

ولعله يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال منطقي جدا، ألا وهو لماذا أعود للكتابة مجددا الآن؟!!.

تصور يا صديقي القارىء أني وجدت من أفتقد كتاباتي وطالبني بالعودة!!!.

لقد أيقظ شغفي من جديد، وها أنا ذي أعود للكتابة أحتراما له،

وأيضا لأخبرك بعضا من أسراري، أو قل بعضا من أسباب شعوري بالإحباط.

أعلم أن فيك ما يكفيك من هموم، ولكن لتمنحني بضع دقائق من سعة صدرك قد تكون فيها فائدة لكلينا.

أتعلم يا صديقي أن قيمي تؤلمني ومبادئي تعذبني؟!، لقد أصابتني في الآونة الأخيرة حالة شديدة من سوء التكيف.

فلقد تربيت في بيت يقدس الدين والعلم ويعلي من شأن المثل العليا.

إن واقع الحياة العملية دوما ما يضع الإنسان في اختبار مستمر لقيمه ومبادئه، وواقعي الآني يحاول بإستماته أن ينتزع مني قيمي ويمزق مبادئي،

وأني لأعتبر حديثي إليك الآن هو محاولة للمقاومة، محاولة لإنقاذ ثوابتي من الإنهيار.

أعلم أنك ملول بطبعك يا صديقي، فلن أطيل في المقدمات أكثر من ذلك وسأخبرك بما حدث. والذي حدث يبدأ بكتاب، كتاب قرأته منذ فترة وكما يقال “جاء على الجرح”،

نعم فقد لمس أحباطاتي ورتبها في نظام دقيق، فسر لي ما يحدث حولي ويؤرقني.

إنه كتاب (نظام التفاهة) الذي كتبه دكتور آلان دونو، ذلك الكتاب الذي أنصحك بقرائته ومحاولة تطبيق ما جاء فيه على ما يحدث حولك.

إن د.دونو فسر لي في كتابه، كيف أن العالم أصبحت تتحكم فيه منظومة التفاهة في كل المجالات، علمية كانت أو ثقافية، سياسية أو اجتماعية إلخ،

وهنا نجد الكاتب يصف لنا ما جاء به نبينا الكريم صل الله عليه وسلم منذ قرون، في حديثه الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال: “سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”،

قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”.

فتعالى معي في جولة سريعة، أطلعك على بعض التطبيقات العملية لتلك المنظومة التافهة الشريرة، وأصحابها من الرويبضة في واقعي العَملي العِلمي المعاش.

نبدأ جولتنا ببعض النماذج التي قابلتها في طريق إحباطاتي، ولنبدأ من أضعف حلقات السلسلة في مجال عملي،

وهي الطالب ذلك المسكين الذي يدفع كثيرا لينال القليل، والزائف أحيانا بل والبالي من العلم.

ورغم أنه مسكين إلا أنه ربي ليكون نبتة يانعة من نباتات التفاهة، فأصبح – إلا من رحم ربي – ضحل الثقافة فقير الأدب، ضعيف العلم لايعنيه منه إلا الحصول على تلك الورقة المزركشة، التي سيعلقها على حائط صالون منزله أو مكتبه للتباهي والتفاخر،

والتي سيحصل عليها بعد محاولات عديدة مستميتة لسنوات عدة، من ابتكار كل الطرق الممكنة للغش، كي تشهد له الجامعة بموجب تلك الورقة أنه خريج.

ننتقل سريعا إلى استاذ هذا الطالب، والذي يعد مسكينا آخر تفوق في نظام التفاهة، حيث استخدم كل ما أوتي من سبل لرفعة شأنه العلمي والمالي،

فحاول بكل جهد أن يستغل طلابه ماليا، عن طريق بيع الكتب والمذكرات وخلافه،

كي ينفق كل هذا على أبحاثه العلمية التي لا يفي راتبه بتكاليف إنجازها ونشرها.

ثم تأتي مرحلة التقدم للترقي فنجده يلهث حائرا بحثا عن توصية أو واسطة، ثم يجمع تحويشة عمره ليأتي ببعض الهدايا الثمينة التي تيسر له طريق النجاح،

وبعد أن ينال الدرجة العلمية والوظيفية المرموقة، فإنه يصبح عضوا بارزا في نظام التفاهة،

حيث يتقلد المناصب التي يظهر فيها كقزم يرتدي حلة عملاق،

ويبدأ مهامه في إبداء السمع والطاعة والولاء للأقزام الأعلى منه في السطلة والمكانة،

كما يسعى بكل جد واجتهاد في تكوين كوادر تافهة من طلابه، حيث يعرقل مسيرة الطلاب النابهين خوفا من منافساتهم له في المستقبل،

ويعلي من شأن الطلاب الضعفاء فيقلدهم أرفع الدرجات العلمية،

وهكذا يضمن استمرارية نسل التفاهة من طلاب وأساتذة.

وعلى الهامش نجد المنتفعين من نظام التفاهة الذين جعلوا من العلم سلعة تباع وتشترى،

ممن يتكسبون على حساب ذلك الأستاذ مدعي العلم وطلابه الأغبياء، فيملؤن الدنيا بإعلاناتهم ذات البجاحة المتناهية،

والتي تفيد أنهم يقدمون خدمة علمية عظيمة للباحثين العلميين وبأسعار تنافسية، فهم يساعدون الباحثين في إعداد رسائلهم العلمية ونشرها،

كما يعاونون أعضاء هيئة التدريس في كتابة وإنجاز أبحاث الترقي.

وهناك العديد والعديد من الشواهد والتطبيقات العلمية العلمية لنظرية التفاهة، التي سادت وانتشرت في مجتمعات التعليم والبحث العلمي مؤخرا،

لكني يا صديقي القاريء أكتفي بهذا القدر حتى لا تحبط مثلي، فقط تحضرني كلمة أخيرة قبل أن أتتركك،

تلك الكلمة التي قالها الزعيم الفرنسي شارل ديجول، بعد علمه أن الجيش الألماني دمر بلاده بعد الحرب العالمية الثانية،

حيث قال: ما حال الجامعة والقضاء؟ فأجابوه: بخير. فقال بثقة: إذن سنكون قادرين على إعادة بناء فرنسا.

وختاما يا قارئي العزيز، هل إذا طرحت عليك نفس تساؤل شارل ديجول، فبماذا ستكون إجابتك؟؟!!.

مدرس أدب وثقافة الطفل

بكلية البنات جامعة عين شمس


اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading