حسام السيد النجار يكتب “الحرب الباردة الجديدة منذ 2014م وتوظيف القوى الإقليمية.. قراءة في المشهد العام لسياسات تركيا ومصر في ظل الاستقطابات الدولية”
حسام السيد النجار يكتب

في حقبة ما بعد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة، وصراع القطبين الذي ساد مشهد النظام العالمي لأكثر من 4 عقود، يبرز صراع عالمي جديد متعدد المجالات والأداوت؛ حيث تبرز القوى العظمى بتأثيرها الاقتصادي والتكنولوجي والتجاري العالمي، والقوى الإقليمية بتأثيرها وعلاقاتها الإقليمية، في مشهد يسوده الشد والجذب والتقارب والتباعد بين تلك القوى؛ ففي وقت تسعى فيه الدولة المصرية إلى التعاون مع جميع الأطراف لحل القضايا والأزمات الشرق أوسطية والأفريقية، تطمح تركيا إلى الاستفادة من علاقاتها مع القوى العظمى وتوظيف نفسها في مشروعاتهم الشرق أوسطية لتؤسس بذلك لتحالفات جيوسياسية جديدة، من شأنها إعادة تشكيل الخريطة السياسية العربية والشرق أوسطية بما يخدم مصالح أنقره وحلفائها الدوليين، ما يؤشر على مزيدًا من التعقيد في مشهد النظام العالمي خلال العقود القادمة.
فما هي القوى الإقليمية والدولية ومدى تأثيرهم عالميًا؟ وكيف يمكن قراءة سياسية الدولة المصرية في قضايا الشرق الأوسط وأفريقيا؟ وما مدى تأثير السياسة المصرية على استقرار الإقليم؟ ماذا عن تركيا وكيف يمكن قراءة الدور التركي في الشرق الأوسط وأفريقيا ومنطقة القوقاز؟ وكيف تطمح أنقرة لإعادة صياغة العلاقات الإقليمية انطلاقًا من علاقاتها بالقوى الدولية؟ ماذا عن القوى العظمى وكيف تنظر إلى علاقاتها بالقوى الإقليمية؟ وفي ظل المشهد الدولي الحالي كيف يمكن قراءة مستقبل العلاقات والتحالفات بين القوى الإقليمية الشرق أوسطية والقوى الدولية؟
تسلط جريدة “أخبار السفارات”، في هذا التقرير عبر دراساتها وتحليلاتها المختلفة الضوء على؛ دور القوى الإقليمية في مشهد النظام الدولي في ظل العلاقات المتشابكة وسياستي التوظيف والبراغماتية بين القوى الإقليمية والقوى العالمية؛ في هذه السطور الأتية.
القوى الإقليمية والدولية ومدى تأثيرهم في النظام الدولي
في النظام الدولي المعاصر تُقسم الدول الفاعلة إلى قوى دولية وقوى إقليمية، تتمتع القوى الدولية بقدرة واسعة على التأثير بعيداً عن حدودها الجغرافية، بينما تركز القوى الإقليمية على دائرة جغرافية محددة وتحقق تأثيراً مركزياً فيها، حيث يتضمن التأثير عدة أوجه منها؛ الاقتصادي والتجاري والعسكري والسياسي والتكنولوجي، ويساهم فهم هذه الفروق في استشراف ديناميكيات السلطة العالمية وتصميم السياسات والصراع. (1)
إذ تتصدر (الولايات المتحدة والصين والاتحاد الروسي) قائمة القوى الدولية، حيث تسيطر هذه الدول على أكبر حصص التجارة العالمية وأسواق المال والاستثمار، وتمتلك احتياطيات ضخمة من العملة الصعبة؛ كما وتقوم بتشكيل النظم المالية الدولية، وتستخدم القوة العسكرية النووية وقواعدها المنتشرة حول العالم لتعزيز نفوذها العالمي، وتستثمر هذه الدول في الدبلوماسية والهيئات الأممية لترسيخ قواعد النظام العالمي.

بينما تشمل القوى الإقليمية دولاً محورية مثل (الهند والبرازيل ومصر وتركيا وإيران)، وتُعنى هذه الدول بتحقيق الاستقرار والأمن في محيطها الجغرافي أولاً من منظورها الخاص، كما ويبنى نفوذها الاقتصادي على الموارد الطبيعية والأسواق الإقليمية المُتصلة، وتستخدم القوة العسكرية التقليدية والتحالفات الإقليمية بالتنسيق مع القوى الدولية لردع التهديدات المحيطة، هذا وتشارك القوى الإقليمية في مبادرات تعاون إقليمي مثل المنظمات الاقتصادية والجيوسياسية.
وتبرز الفروقات بين القوتين الإقليمية والدولية في نطاق النفوذ ومدى قدرة كل قوة على التأثير الخارجي، إذ تمتاز القوى الدولية بامتلاك أدوات سياسة نقدية واقتصادية عالمية؛ بينما تملك القوى الإقليمية معرفة عميقة بخصوصيات جيرانها ومتطلبات منطقتها، ويعتمد التعامل العسكري للقوى الدولية على التكنولوجيا المتقدمة والأسلحة الاستراتيجية، ويركز التدخل السياسي للقوى الإقليمية على التأثير في بنى الحكم المحلية والإقليمية في المحيط الجيوسياسي. (2)
ويتشكل النظام الدولي المعاصر من تفاعل معقد بين القوى الدولية والإقليمية، حيث يؤدي التوازن بين هذه القوى إلى ظهور معاهدات واتفاقيات متعددة المستويات، تعزز التكامل الاقتصادي بين القوى ما يسهم في تبادل المصالح والتنمية؛ ويمكن للصراعات الإقليمية أن تمتد لتصبح قضايا دولية تحت مظلة الأمن الجماعي، ففهم هذه الديناميات يساعد على تصميم سياسات فعالة ومستدامة في عالم مُتغير.

سياسية الدولة المصرية في قضايا الشرق الأوسط وأفريقيا
تلعب مصر دورًا محوريًا في بنية القوى الإقليمية، بفضل إرثها الحضاري وموقعها الجغرافي؛ حيث يمتد تأثيرها من ضفاف النيل إلى شواطئ البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وترتكز سياستها الخارجية على ربط مصالح الشرق الأوسط بقضايا القارة الإفريقية، كما وتسعى لاستعادة دورها التاريخي كقلب للعلاقات العربية والأفريقية وتعزيز التضامن الإقليمي، حيث يؤهلها هذا الدور لتكون وسيطًا رئيسيًا في ملفات الأمن والتنمية والتعاون متعدد الأطراف.
وتعتمد مصر على علاقاتها الاقتصادية لتقوية نفوذها الإقليمي في الشرق الأوسط، إذ تستثمر في مشاريع الطاقة والنقل مثل محور قناة السويس وربطها بالموانئ الإقليمية؛ وتسعى لتعزيز التجارة البينية من خلال اتفاقيات التجارة الحرة مع دول الجوار، كما وتدعم الاستثمارات المشتركة في مجالات الصناعة والزراعة والبنية التحتية الإقليمية، ويشكل الدور التجاري للجانب المصري جسرًا للتكامل الاقتصادي مع دول حوض النيل والشام.
وتبنت مصر استراتيجية أمنية متوازنة تتضمن مكافحة الإرهاب وحفظ الحدود، كما وتشارك بفعالية في جهود حفظ السلام الأممية بأفريقيا والشرق الأوسط، وتلعب القوات المسلحة المصرية دورًا أساسيًا في تأمين منطقة سيناء وحماية الممرات البحرية، وترعى القاهرة حوارات سياسية وعسكرية لتهدئة النزاعات في ليبيا والسودان وبعض مناطق النزاعات في أفريقيا، بما يعكس تنوع التعاون الأمني مع شركاء إقليميين ودوليين ومرونة السياسة الدفاعية المصرية. (3)
وتنشط مصر دبلوماسيًا في إطار الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي لتعزيز وحدتهم، إذ تستضيف القمم والاجتماعات الوزارية لبحث قضايا فلسطين والسودان والتغير المناخي، وتستخدم القاهرة خبرتها التاريخية كوسيط لتسوية النزاعات العربية والأفريقية، كما وتدعم جهود المصالحة الوطنية في دول مثل السودان وليبيا عبر مبادرات سياسية، وتعتمد في تحركها الدبلوماسي على التنسيق مع القوى الكبرى دون إقصاء طرف إقليمي.
هذا وتواجه الدولة المصرية تحديات اقتصادية داخلية تؤثر على قدرتها على الإنفاق الإقليمي، حيث تعي الحكومة المصرية ضرورة التوازن بين علاقتها بالغرب وروسيا والصين لضمان مصالحها؛ وتسعى لتطوير مفهوم القارة الواحدة في سياق رؤيتها للتنمية المستدامة 2030، كما وتستثمر في القوة الناعمة من خلال الثقافة والتعليم والاتصال الإعلامي، ويبقى تناغم السياسة الخارجية مع الإصلاحات الداخلية مفتاحًا لاستدامة تأثيرها الإقليمي.
كما ويعتمد النهج البراغماتي المصري على الموازنة بين المصالح الوطنية والظروف الإقليمية؛ حيث تسعى القاهرة لتحقيق أهداف استراتيجية دون التورط في أيديولوجيات عابرة، وتظهر هذه السياسة بوضوح في الأولويات الاقتصادية والأمنية الموجهة نحو التنمية، بحيث يُمكّن هذا الأسلوب القاهرة من تعزيز المصداقية المصرية أمام الشركاء الأفارقة والعرب.

هذا وتلعب المصالح الإقليمية الجماعية دوراً محورياً في توحيد الرؤية بين دول الجوار، بحيث تتجسد هذه الديناميكية في مبادرات مثل الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، ويركز التعاون على قضايا المياه والأمن الغذائي ومكافحة الإرهاب العابر للحدود حيث تضمن المشاركة الفعالة في هذه المنظمات تحقيق مكاسب متبادلة تنعكس إيجابياً على مصر وشركائها الإقليميين.
هذا وتسخر مصر نهجاً براغماتياً في علاقاتها مع دول حوض النيل لإدارة الموارد المائية، إذ تشترك مع إثيوبيا والسودان في مبادرات تقنية وهندسية لتحسين استغلال مياه النيل رغم العراقيل التي تضعها إثيوبيا أمام توسيع التعاون المائي مع مصر؛ وفي شرق المتوسط، ترعى القاهرة منتدى الغاز لدعم التعاون الطاقي وضمان الأمن، وتعكس هذه المشاريع قدرة مصر على دمج المصالح الوطنية مع الرؤى الإقليمية المشتركة. (4)
هذا ويؤدي الدمج بين البراغماتية والمصلحة الجماعية إلى استقرار بيئي وسياسي بمحيطها، حيث يسهم هذا التوافق في صنع سياسات متوازنة تعزز دور مصر كوسيط إقليمي مؤهل، ويمكن رؤية نتائج هذا النهج في مشاريع البنية التحتية والتجارة العابرة للقارات، ويبقى التطوير المستمر للتنسيق الإقليمي ركيزة استراتيجية لترسيخ النفوذ المصري أفريقيًا وشرق أوسطيًا.
مدى تأثير السياسة المصرية على استقرار الإقليم
فالسياسة المصرية تركز على تعزيز الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط وأفريقيا انطلاقاً من موقعها الجيوسياسي الحيوي، حيث تسعى القاهرة إلى دعم الأمن المشترك عبر مبادرات التنمية والبنية التحتية التي تربط بين القارتين (غرب آسيا وأفريقيا)، وتعتمد مصر على دبلوماسية نشطة توازن بين المصالح الوطنية والأولويات الإقليمية؛ بحث يسهم هذا النهج في ترسيخ دورها كقلب تفاعلي يربط بين دول الجوار والقوى العالمية.
وتتبنى القاهرة سياسة دفاعية لحماية حقوقها في مياه النيل، فتنسيقها مع واشنطن يتضمن دعماً أمنياً واقتصادياً لمنع أي إجراءات أحادية، وفي المقابل؛ توسع علاقاتها مع بكين لتمويل مشاريع البنية التحتية المائية، كما وتستفيد من التعاون مع موسكو في تبادل الخبرات الفنية وتعزيز القدرات الدفاعية.
كما وتلعب مصر دوراً أساسياً في تسوية ملف فلسطين عبر فتح قنوات المفاوضات، حيث تعتمد في ذلك على الدعم الدبلوماسي الأمريكي والتواصل المتوازن مع روسيا لتخفيف التوتر؛ وتعمل القاهرة على إطلاق مبادرات لإعادة الإعمار في غزة مع مساهمات صينية لتنمية البنى التحتية، أما في سوريا؛ فقد تحركت مصر طيلة سنوات للوساطة بين القوى المتصارعة في سوريا لتحقيق هدنة وتحريك العملية السياسية.
وفي ليبيا؛ تدعم مصر العملية السياسية وتنسق مع موسكو على المستوى الأمني والدبلوماسي، حيث تلفت النظر إلى واشنطن لدفع مسار سياسي يشرك كافة الأطراف ويضمن سيادة الدولة، وتستغل القاهرة الفرص الاقتصادية التي تتيحها الاستثمارات الصينية في إعادة الإعمار؛ وبالنسبة للسودان، يعمل التنسيق المصري مع الولايات المتحدة على دعم الانتقال المدني، بينما تحافظ على شراكتها مع الصين اقتصادياً.
ويعكس هذا التوازن في التنسيق مع روسيا والصين والولايات المتحدة، قدرة مصر على إدارة التنافس الدولي، بما يسهم في تحقيق استقرار أمني واقتصادي عبر توفير مسارات تعاون متعددة؛ ويجعل من القاهرة وسيطاً موثوقاً قادراً على تلبية تطلعات الشركاء الإقليميين والدوليين، ويعزز هذا النهج قدرات مصر على مواجهة التحديات المستجدة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأزمة الحرب الإسرائيلية الشاملة على عددًا من الدول العربية منذ أكتوبر 2023م؛ فقد كان الموقف المصري واضحًا منذ البداية تجاه مخططات التهجير ومشاريع ممر داوود، والطموحات الإستعمارية الإسرائيلية في الإقليم، حيث أسهم الموقف المصري الصلب في إفشال أهداف الكيان المحتل التوسعية في الإقليم، ودفع بتجاه تنظيم صفقات تبادل وهدن مؤقتة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
الدور التركي في الشرق الأوسط وأفريقيا ومنطقة القوقاز
وفيما يتعلق بتركيا؛ فإن أنقرة تُعيد بناء نفوذها من خلال مشروع “النيوعثمانية” الذي يستلهم إرث الإمبراطورية العثمانية، حيث توظف أنقرة مزيجاً من القوة الناعمة والصلبة لتوسيع مجال تأثيرها الإقليمي، ويرتكز الخطاب التركي الموجه للمجتمع العربي على مكانة الحماية التاريخية للثقافة الإسلامية والسنية، حيث تعتمد السياسة العثمانية الجديدة على تنويع أدوات الضغط بين الدبلوماسية والاقتصاد والأمن، ويمكن قراءة هذا الدور كمسعى لتحقيق توازن مع القوى التقليدية والتحديات الجيوسياسية، وطموحات تركيا للهيمنة على الإقليم. (5)
ففي الشرق الأوسط؛ جاءت تحركات أنقرة بوجهين، (عسكري) لدعم أذرعها الإقليمية وميليشياتها في المنطقة (وديبلوماسي) للتوسط في الأزمات، فقد شاركت القوات التركية في شمال سوريا ضد القوات الكردية مع تنظيمات وجماعات إرهابية مثل هيئة تحرير الشام لتوسيع حدودها السياسية والسيطرة على مساحات من الأراضي السورية؛ كما وتضغط أنقرة عبر ملف الغاز وحقوق التنقيب في شرق المتوسط كمحاولة للهمينة على المناطق الاقتصادية المتنازع عليها مع قبرص واليونان ما يهدد الإقليم بمزيد من التأزم والمواجهات، وتسعى تركيا لاستثمار علاقاتها مع قطر والمغرب لإقامة تحالفات إقليمية متماسكة، ويمكن فهم هذه الخطوات على أنها سعي للاستقلال الاستراتيجي والحضور الفاعل في محيطها.
كما وامتد تأثير تركيا إلى أفريقيا عبر فتح سفارات واستثمارات في البنية التحتية والاتصالات، وتنشط وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) في مشاريع تنموية من الصومال إلى تشاد، كما وتضع أنقرة نفسها شريكاً أمنياً عبر اتفاقات مكافحة الإرهاب وتدريب الجيوش الأفريقية؛ وتعتمد الشركات التركية على بناء الطرق والموانئ لتأمين خطوط التجارة والطاقة، وتبرز القراءة هنا في سعي تركيا إلى تأمين موارد استراتيجية وتموضع منافس للدول الكبرى.
وفي منطقة القوقاز؛ دعمت أنقرة باكو خلال حرب كاراباخ وقدمت لها ذخائر طائرات “بيرقدار” المسيرة، وساهمت تركيا في إعادة إعمار البنية التحتية وفتحت خط غاز الأناضول لنقل الطاقة إلى أوروبا؛ كما وحافظت أنقرة على توازن هش مع موسكو عبر التنسيق حول سوريا وتبادل مصالح في القوقاز؛ وتسعى أنقرة لبناء شبكة حلفاء عبر الجاليات التركية والأذربيجانية والجورجية، ويمكن قراءة الدور التركي هنا كمحاولة لخلق جسر بين آسيا الوسطى وأوروبا عبر النفوذ العسكري والاقتصادي. (6)

وتستخدم أنقرة مزيجاً من الصفقات الاقتصادية والبرامج الثقافية مثل المنح الدراسية ودورات اللغة التركية، وتعزز الشركات التركية الطموح الصناعي عبر تصدير البناء والدفاع إلى شمال أفريقيا والقوقاز، كما وتعمل تركيا عبر منصات إعلامية مثل قناة “تي آر تي” لنشر رؤيتها وتحصيل الدعم الشعبي، هذا وتستخدم القوى الدولية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الروسي تركيا بين حين وأخر في سياق طموحاتهم الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط بما يحقق مكاسب استراتيجية، ويمكن قراءة هذه الديناميكية النهائية كقدرة تركية على المناورة بين الأقطاب واستثمار الفرص والطموحات التوسعية.
كيف تطمح أنقرة لإعادة صياغة العلاقات الإقليمية انطلاقًا من علاقاتها بالقوى الدولية
وفي إطار طموحاتها التوسعية وانطلاقًا من تصورات العثمانية الجديدة؛ توظف أنقرة خطابات الهوية الإسلامية والتركية لإذابة الحواجز التاريخية وبناء تحالفات بين الأتراك والعرب في سوريا وليبيا، ويُضاف إلى ذلك دور الشركات الدفاعية التركية في تصدير الطائرات دون طيار لدعم أذرعها وميليشياتها في سوريا وليبيا وتقوية وجودها العسكري.
كما وتعزز أنقرة طموحها عبر شراكات أمنية متباينة مع القوى الدولية، إذ تميّز علاقاتها مع واشنطن بنفوذ داخل حلف شمال الأطلسي مع الاحتفاظ بطريق مفتوح لشراء أسلحة روسية كصواريخ إس-400 لتحقيق استقلال استراتيجي، وتتعاون مع موسكو في التنسيق في الملف السوري رغم التنافس في القوقاز لضمان مساحات مناورة دبلوماسية وعسكرية؛ كما وتستفيد من تمويلات البنية التحتية الصينية ضمن مبادرة الحزام والطريق لتطوير موانئها وربطها بشبكات التجارة العالمية.
هذا وتوظف الولايات المتحدة أنقرة كدرع أمامي على حدود سوريا والعراق عبر قواعد إنجرليك وزهيمييم لتوجيه ضربات جوية ضد الدول العربية، كما حدث أثناء غزو العراق عام 2003م وضرب الناتو لليبيا عام 2011م في سياق رؤية الولايات المتحدة للشرق الأوسط الجديد، كما وتمارس تركيا ضغوطات على أوروبا عبر ملف اللاجئين لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية؛ وتعمد موسكو إلى استثمار دور أنقرة كوسيط في سوريا وليبيا للحفاظ على تفوقها الأمني دون مواجهة مباشرة مع حلف شمال الأطلسي، وتستغل بكين التوجه التركي نحو مبادرة الحزام والطريق لتعزيز نفوذها الاقتصادي في شرق المتوسط وشمال أفريقيا.
وينتج عن هذا التوظيف المتبادل، قدرة تركية على المناورة بين الأقطاب واستغلال التنافس الدولي لتعظيم مكاسبها الإقليمية وطموحاتها التوسعية؛ ويعكس التوازن بين الضغوط الغربية والروسية والصينية، رغبة أنقرة في ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية لا غنى عنها، في المقابل؛ تستثمر القوى الكبرى طموحات أنقرة لتحقيق استراتيجياتها نحو الشرق الأوسط وإشراكها في رسم خريطة النفوذ بعد الأزمة السورية، ويظل الواقع أن الهيمنة الإقليمية التي تطمح إليها أنقرة مرتبطة إلى حد كبير بمدى نجاحها في مواصلة اللعب داخل المنظومة الدولية.
القوى العظمى وكيف تنظر إلى علاقاتها بالقوى الإقليمية في قيادة النظام الدولي
تعتبر القوى العظمى قلب النظام الدولي ومحرّكه الأساسي، حيث ترسم رؤاها الاستراتيجية عبر تفاعلاتها مع القوى الإقليمية لتعميق نفوذها؛ وتطمح إلى تصميم الأطُر السياسية والأمنية والاقتصادية التي تحكم العلاقات العالمية، وتشترط تحويل الشراكات الإقليمية إلى أدوات للتوازن والهيمنة، كما وتعتمد في ذلك على موازين القوى القائمة وعلى استبقاء القدرة على التحرك المنفرد ضمن الأزمات الدولية؛ ويتجلى هذا التوجه في صياغة قواعد منظمة التجارة وحفظ الأمن وتوزيع الأدوار داخل المؤسسات الدولية. (7)
وتنظر الولايات المتحدة إلى القوى الإقليمية كمصر وتركيا كشركاء أساسيين في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، رغم ما عكسته الخلافات المصرية الأمريكية حول الحرب الإسرائيلية على الشرق الأوسط من حجم الفجوة في العلاقات بين الجانبين، والانحياز الأميركي المتزايد للكيان المحتل؛ ورغم ذلك تعتمد واشنطن على تحالفات مثل حلف الناتو والشراكات الثنائية مع مصر وتركيا لتعزيز نفوذها الإقليمي، مستثمرةً في بناء قدرات هذه الدول لضمان التزامها بالتعاون مع الولايات المتحدة، كما وتستخدم واشنطن النفوذ الاقتصادي والعسكري لتحفيز سياسات تدعم مصالحها، وتحرص على إبقاء خطوط الاتصال مفتوحة في الأزمات، ويساهم هذا النهج في تمديد مظلة النفوذ الأمريكي وتعزيز موقع واشنطن كقوة ضامنة للنظام القائم.

هذا وترى الصين في القوى الإقليمية “مصر وتركيا” بوابات لتمدد مبادرة الحزام والطريق، فتعمل على تحويلها إلى ساحة للتعاون الاستثماري والطاقة والبنية التحتية؛ وتوازن بكين بين مقارباتها التجارية واستراتيجيات النفوذ الناعم لتعزيز مكانتها وتوسيع شبكة شركائها بعيداً عن محور واشنطن، وتؤكد على احترام سيادة الدول مع تأصيل الاستحقاقات الاقتصادية المشتركة، ما يجعل علاقتها بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ومصر تحديدًا قائماً على المصالح المتبادلة؛ ويسود في هذه السياسة الطموح لبناء نظام متعدد الأقطاب يرتبط فيه نمو الشركاء بقدرة بكين على الاستثمار.
وتتعامل روسيا مع القوى الإقليمية كأدوات لتحدي النفوذ الغربي وإعادة بناء مجال نفوذها التاريخي؛ حيث ترسّخ علاقاتها عبر إمدادات الطاقة والشراكات الأمنية والاستخباراتية، مستفيدةً من الفراغ الذي تتركه القوى الغربية في بعض المناطق، وتستغل التباينات الإقليمية لتعزيز موقعها في صراعات الشرق الأوسط والقوقاز، وتؤسس محاور تعاون تتسم بالمرونة وتنوع المصادر، ويساعدها هذا الأسلوب على لعب دور الوسيط والفاعل المدعوم عسكرياً واقتصادياً، مما يعيد لروسيا بعضاً من بريقها الدولي.
مستقبل العلاقات والتحالفات بين القوى الإقليمية الشرق أوسطية والقوى الدولية
يشهد المشهد الدولي تحولات متسارعة تُعيد تشكيل طبيعة العلاقات بين القوى الإقليمية الشرق أوسطية والقوى الدولية، في ظل الانحياز الغربي الكامل للكيان المحتل والتوظيف التركي في مشروعات الغرب الشرق أوسطية، وهنا تتجه القوى الإقليمية العربية مصر والأردن، نحو تنويع شراكاتها لتقليل الاعتماد الأحادي على الغرب، مع تعزيز علاقاتها بالصين وروسيا؛ إذ تُظهر هذه الدول قدرة متزايدة على المناورة بين الأقطاب الكبرى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، ويعكس هذا التوجه رغبة في بناء استقلالية نسبية ضمن نظام دولي متعدد الأقطاب ومتقلب التوازنات.
وتسعى القوى الدولية إلى الحفاظ على نفوذها عبر إعادة صياغة تحالفاتها مع القوى الإقليمية وفقاً لمصالحها المتغيرة، إذ تستخدم أدوات الاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا لتعزيز ارتباط هذه الدول بمنظوماتها العالمية، في المقابل؛ تفرض الأزمات مثل الحرب في أوكرانيا والتوتر في بحر الصين والحرب في الشرق الأوسط والسودان تحديات أمام استمرارية هذه التحالفات، ويُتوقع أن تتجه القوى الكبرى نحو تحالفات مرنة تتيح لها التكيف مع التغيرات الجيوسياسية دون التورط المباشر.
وتُظهر القوى الإقليمية مثل السعودية وتركيا ومصر والإمارات والأردن، رغبة في لعب أدوار قيادية مستقلة نسبياً، حيث تستثمر في بناء تحالفات جنوبية جديدة مثل منظمة شنغهاي والتقارب مع بريكس لتعزيز موقعها العالمي، وتسعى هذه الدول إلى تحويل مواردها وموقعها الجغرافي إلى أدوات ضغط وتفاوض مع القوى الكبرى، حيث يعكس هذا الحراك صعود نمط جديد من التحالفات يقوم على المصالح المتبادلة لا التبعية السياسية.
فمستقبل العلاقات بين القوى الإقليمية والدولية مرهون بقدرة الطرفين على إدارة التنافس دون تصعيد، وستبقى ملفات الطاقة، والأمن، والتكنولوجيا، والممرات التجارية محاور رئيسية في هذه العلاقات، ومن المرجح أن تتشكل تحالفات هجينة تجمع بين التعاون الاقتصادي والتباين السياسي، وفي ظل هذا المشهد، تبرز الحاجة إلى دبلوماسية متعددة المسارات توازن بين الاستقلالية والانخراط الدولي.
الخلاصة:
-في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، تتجه العلاقات بين القوى الإقليمية الشرق أوسطية والقوى الدولية نحو نمط أكثر تعقيداً وتعددية، إذ لم تعد التحالفات تُبنى على الولاءات الثابتة، بل على المصالح المُتغيرة والقدرة على المناورة بين الأقطاب العالمية، إذ تسعى القوى الإقليمية إلى تعزيز استقلاليتها عبر تنويع شراكاتها والانخراط في منظومات دولية بديلة، أبرزهم مصر والأردن، في المقابل؛ تحاول القوى الكبرى الحفاظ على نفوذها من خلال أدوات غير تقليدية كالتكنولوجيا والطاقة، وهذا التفاعل يولّد تحالفات مرنة تجمع بين التعاون والتنافس، مما يتطلب دبلوماسية ذكية ومتعددة المسارات، فمستقبل هذه العلاقات سيُحدد بمدى قدرة الأطراف على تحقيق التوازن بين الاستقلال الاستراتيجي والانخراط العالمي دون الوقوع في صدام مباشر.
المصادر
(1)مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
(2)مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
(3)المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
(4)المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
(5)مركز البيان للدراسات والتخطيط
(6)المركز العربي للبحوث والدراسات
(7)مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
أقرأ أيضًا: حسام السيد النجار يكتب: “منافسوا قناة السويس المصرية .. وممر الشمال – الجنوب“
اكتشاف المزيد من أخبار السفارات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.